تحليل: هل تفقد ألمانيا موقعها الريادي في الصناعة؟

اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية يدق ناقوس الخطر ويقول من خلال مسح أجراه مؤخرا أن 39 بالمائة من الشركات الألمانية تتوجه في الوقت الحالي إلى زيادة استثماراتها في الولايات المتحدة على حساب الاستثمار في بلدها الأم وأوروبا.

ويقف وراء هذا التوجه الذي يثير قلقا متزايدا في مختلف الأوساط الألمانية عدة أسباب أحدثها إلى جانب استمرار ارتفاع أسعار مصادر الطاقة قرار إدارة الرئيس جو بايدن تقديم إعانات سخية وإعفاءات ضريبية للاستثمار الأجنبي واتخاذ إجراءات حمائية لمنتجاته في السوق الأمريكية في إطار عدة قوانين أبرزها "قانون تخفيض التضخم". وتشمل الإعانات والدعم الذي سيصل إلى نحو 400 مليار دولار بالدرجة الأولى كل ما يتعلق بالصناعة الخضراء في مجال الطاقات المتجددة والسيارات الكهربائية والرقائق الإلكترونية والآلات والبنى التحتية المرتبطة بذلك. 

وقد انتقد فولكر ترير مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد السياسة الاقتصادية الأمريكية الجديدة بهذا الشأن على أساس أنها تمييزية وتتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية والاتفاقيات السارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما أنها تعزز بقرار أحادي الجانب القدرة التنافسية للولايات المتحدة التي تتمتع باستقرار نسبي على صعيد توفر مصادر الطاقة والمواد الأولية التي ما تزال أسعارها أقل من مثيلتها في الاتحاد الأوروبي.

هجرة الصناعة وخطرها على الاقتصاد الألماني

تفيد معطيات الأسابيع القليلة الماضية بإقدام شركات ألمانية على تقليص إنتاجها وعن توجه المزيد منها للهجرة وخاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويرى أكثر من خبير أن ذلك ينذر  بخطر كبير يحدق بالاقتصاد الألماني ومكانته كأقوى اقتصاد أوروبي ورابع أقوى اقتصاد في العالم.

ويقف وراء هذا الخطر اعتماد ألمانيا على الصناعة أكثر من أي بلد أوروبي آخر، إذ ما تزال تشكل مصدرا لنحو 25 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي يزيد عن 4 تريليونات يورو سنويا.

وتشكل الصناعات الكيماوية وصناعة السيارات والزجاج والبورسلان والورق وصناعة الآلات مصدر الدخل الأساسي وعماد سوق الوظائف في ألمانيا.

وتكمن المشكلة في أن القسم الأكبر منها يعتمد على الاستخدام الكثيف لمصادر الطاقة التقليدية وعلى رأسها الغاز الذي تضاعفت أسعاره أكثر من ثلاث مرات في غضون أقل من سنة، لاسيما منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.

وتشكل تكاليف الطاقة 16 بالمائة من تكاليف الإنتاج في الصناعات الكيماوية الأساسية. وعلى صعيد منتجات أخرى مثلا الأمونياك تصل هذه التكاليف إلى 70 بالمائة. 

صناعات هامة تتجه إلى ترك ألمانيا

تدخل الصناعات الكيماوية بما فيها اللدائن والبلاستيك في أيامنا هذه في جميع المنتجات تقريبا. على ضوء ذلك تحذر شركات مثل بي إيه اس اف/ BASF العملاقة للكيماويات أن استمرار ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية يفقد المنتج الألماني قدراته التنافسية ويهدد بتراجع ألمانيا إلى الصف الثاني بين الدول الصناعية. ومن بوادر هذا التراجع انخفاض الطلب على منتجات الصناعة التحويلية الألمانية بنسبة وصلت إلى 4 بالمائة في سبتمبر/ أيلول الماضي.

ومن المرجح أن يتقلص الإنتاج الصناعي الألماني بنسبة 5 بالمائة عام 2023 حسب تحليل أجراه "دويتشه بنك" عن أزمة الطاقة وتأثيرها على الصناعة. ومع هذا التراجع أقدمت عدة شركات منها بي إيه إس اف مؤخرا على تقليص إنتاجها من الأمونيوم والاسيتيلين ومنتجات أخرى تستخدم صناعة البلاستيك، والأنسجة والمنظفات وغيرها.

وقلصت شركة "تريميت/ Trimet" إنتاجها من الألمنيوم و "ارسيلير ميتال/ ArcelorMittal" إنتاجها من الصلب.

ومع استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج، وخاصة بسبب أسعار مدخلاته يبدو أن المزيد من الصناعات الألمانية ستضطر إلى الإنتاج في الخارج حيث يتوفر لها ميزات تنافسية أعلى. وهنا تأتي السوق الأمريكية في مقدمة الأسواق الأكثر جاذبية، أيضا بحكم النزاعات الجيوسياسية المتزايدة بين الغرب والصين.

وهناك شركات ألمانية كبيرة مثل شركة فولكسفاغن اتخذت قرارها بالفعل لصالح هذه السوق. فقد قررت هذه الشركة استثمار أكثر من 7 مليارات دولار في السيارات الكهربائية كي تتمكن من الحفاظ على مكانتها في الولايات المتحدة التي تقدم دعما سخيا للسيارات التي يتم إنتاجها محليا.

وتريد بي م دبليو/ BMW توسيع استثماراتها أيضا في السوق المذكورة من خلال ضخ 1.7 مليار دولار لإنتاج البطاريات والموديلات الكهربائية. وتشكل السوق الأمريكية أحد أهم أسواق السيارات الألمانية. وتدرس شركات من قطاعات أخرى مثل شركة سيمنس العملاقة توسيع استثماراتها في أمريكا على ضوء الفرص الواعدة هناك.

خطر هجرة الشركات على سوق العمل والمدن

تعني هجرة الصناعات، لاسيما صناعة السيارات ومكوناتها تبعات دراماتيكية لألمانيا التي تعد أحد أهم مصنعي السيارات في العالم. ولا تكمن أهمية هذه الصناعات في أنها تقدم منتجات عالية التقنية وحسب، بل أيضا في كونها تخلق عشرات آلاف الوظائف سنويا في سوق العمل الألماني.

ومن شأن الهجرة وتقليص الإنتاج أو توقفه دفع عشرات آلاف العاملين إلى البطالة، ناهيك عن أن ذلك سيفاقم تبعات التضخم وارتفاع الأسعار في هذه السوق.

ويزد الطين بلة أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تعاني من المشاكل التي تعانيها الصناعات الكبيرة. وعلى ضوء ذلك أفادت "جمعية الشركات العائلية" الألمانية حسب استقصاء أجرته مؤخرا أن 25 بالمائة من الشركات التابعة لها تخطط لإلغاء الوظائف.

ويحذر خبراء من أن تقليص الوظائف والإفلاس سيكون له تبعات مأساوية على مدن ألمانية كثيرة مثل مديتي لودفيغسهافن وفولفسبوغ حيث يقع مقر بي إي اس اف في الأولى ومقر فولكسفاغن في الثانية. وكل من الشركتين تضمن في مدينتها استمرار عشرات آلاف الوظائف.

هل تكون برلين على مستوى التحدي الأمريكي؟

تحاول الحكومة الألمانية من خلال حزم الدعم المالي الحد من تبعات ارتفاع أسعار الطاقة، إذ خصصت نحو 100 مليار يورو لدعم الشركات في مواجهة هذا الارتفاع. وعلى الرغم من أهمية هذه الحُزم، فإن ممثلي الصناعة يطالبون بحلول طويلة الأجل على مستوى ألمانيا وأوروبا وبشكل يعادل ما تقوم به الولايات المتحدة.

ويشتكي هؤلاء على مستوى ألمانيا في الوقت الحاضر من التشويش وعدم اليقين  والعوائق البيروقراطية وصعوية تحديد المدة اللازمة للحصول على التراخيص اللازمة لتأسيس مشروع أوتوسيعه.

كما يتهمون صناع القرار الأوروبي بالانشغال بتفاصيل مملة في الوقت الذي قامت فيه الولايات المتحدة بتبسيط إجراءات الاستثمار. وقد أشاد كريستيان بروخ، الرئيس التنفيذي في شركة سينمس بالبرنامج الأمريكي في هذا الشأن ووصفه بأنه "ذكي وبسيط وسهل الفهم".

واعتبر بروخ أن ذلك سيؤدي إلى إطلاق موجة من الاستثمارات الألمانية في السوق الأمريكية.

وحسب المسؤول في سيمنس فإن الحكومة الألمانية وضعت أهدافا طموحة للتحول في مجال الطاقة وصناعات أخرى، غير أنها لم تقم بعد بخطوات كافية تسهّل تحقيق هذه الطموحات، وهو الأمر الذي يعد قاتلا لمستقبل ألمانيا الصناعي، لأن "الشركات ستحدد مواردها وأسواقها للانتقال إلى الطاقات المتجددة في غضون سنة من الآن".

وإذا لم تستجب ألمانيا للتحدي الأمريكي في الوقت المناسب فإن الأمور تنذر بعواقب كارثية على صناعتها الرائدة.