شمس الديمقراطية.. حين تنفس اليمنيون الحرية

في صباح الـ 27 من أبريل عام 1993م بعد تحقيق الوحدة اليمنية المُباركة استيقظت العاصمة صنعاء  على مشهد غير معتاد، طوابير من المواطنين أمام مراكز الاقتراع، النساء يخرجن لأول مرة للمشاركة في حدث سياسي وديمقراطي بهذا الحجم، الرجال يناقشون برامج انتخابية في المقاهي والمجالس، لقد كان يوم 27 أبريل أكثر من مجرد تاريخ، كان لحظة فاصلة أراد فيها اليمنيون أن يكون لهم رأي، وصوت يُسمع.

في عالم السياسة ثمة تواريخ تتوهج لا لأنها صنعت تحولاً سياسياً، بل لأنها فجرت السؤال الجوهري، من يملك القرار؟ ولأول مرة نشاهد الجواب يحكي عن نفسه، ملايين اليمنيين في طوابير طويلة أمام مراكز الاقتراع، لم يكن ذلك اليوم يوماً عادياً، بل كان تصادماً بين منطق الدولة المتشكلة حديثاً، والتاريخ الاجتماعي والسياسي لبلد لطالما كانت السلطة فيه حقاً مشروعاً لإرادة شعبية.

الديمقراطية: هل كانت طارئه؟

حين أجتمع اليمنيون لأول مرة بعد الوحدة، أمام صناديق الاقتراع، كانت الديمقراطية تبدو وكأنها صوت قادم من المستقبل، فكرة تسللت خلسة وسط صخب التوافقات السياسية، وسُمح لها بالظهور كنوع من تضميد الجروح، لما بعد التوحيد، لكن بالنسبة للمواطن اليمني كانت هذه اللحظة أشبه بانفراج وجودي، فرصة ليقول أنا موجود وأملك رأياً.

ومن منظور الفلسفة السياسية، لا تُولد الديمقراطية دفعة واحده بل تمر بمخاضات مركبة، يتشابك فيها التاريخ، والثقافة، والواقع الاجتماعي، ويوم الـ 27 من أبريل بكل ما حمله هذا اليوم من آمال وتطلعات، كان بمثابة لحظة كاشفة، لحظة أعلن فيها اليمنيون أنهم لايريدون فقط نهاية الانقسام الجغرافي، بل بداية الوحدة السياسية الحقيقية عبر صناديق الاقتراع، وهذا ما تحقق لهم  بإرادتهم وبإرادة السلطة آنذاك بقيادة الزعيم الشهيد الراحل الرئيس علي عبدالله صالح الذي أرسى قواعد الديمقراطية وحقق الأمن والاستقرار لبلد كان محاط بالكثير من المخاوف والمخاطر.

الرئيس علي عبدالله صالح.. صانع اللحظة ومهندس التوازنات

بلا شك لقد كان الرئيس علي عبدالله صالح مهندس الديمقراطية في اليمن، وصانع اللحظة الأولى في تحول اليمن سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً وديمقراطياً، قد يختلف معه البعض وهم قلة يركضون خلف مشاريع صغيره، لكن المنصفين لا ينكرون أن ما جرى في الـ 27 من أبريل ماكان له أن يحدث لولا إصراره وموافقتهِ واحتواءهِ الذكي للمرحلة، لقد كان الرئيس صالح في ذلك الوقت في أوج قوتهِ السياسية، ومع ذلك فتح الباب أمام التعددية الحزبية مانحاً الجميع حق المشاركة والانخراط في العمل الحزبي والسياسي، بل وأشرف على تنظيم أول انتخابات حُرة، وسمح لجميع القوى والأحزاب السياسية بالمشاركة السياسية دون أي إقصاء.

لقد فهم الرئيس علي عبدالله صالح بدهائهِ المعروف أن الديمقراطية خيار لا تراجع عنها، وبأنها وسيلة لتثبيت الأمن والاستقرار، ونافذة أمل فُتحت لليمنيين، وعززت شعور المواطن بأنه شريك في القرار، لا تابع له، ولعلي أتذكر قولهُ الشهير في إحدى خطاباتهِ حين قال: " الديمقراطية في اليمن خيار لا رجعة عنه، وسنحميها لأنها تحمي اليمن.

لا يمكن الحديث عن 27 أبريل دون التوقف عند دور الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، الذي أدار تلك المرحلة بحنكة سياسية قل نظيرها، لقد وافق على فتح المجال السياسي، وساهم في احتواء التوترات التي كانت تهدد بانفجار سياسي وخلافات قد لا تنتهي، أدرك الرئيس صالح آنذاك بعد الوحدة أن الشرعية الدستورية لا يمكن أن تكتمل دون مشاركة الناس، فكانت الانتخابات فرصة حقيقية للمشاركة والمساهمة في صنع القرار.

في ذلك اليوم الـ27 من أبريل كانت الناس تسير بثقة نحو مركز الاقتراع، وعلى الجهة الأخرى بدت المُدن وكأنها ترتدي ثوباً جديداً، اللافتات تملأ الجدران، والوجوه على البوسترات تتنافس بالوعود، الناس رغم خلافاتهم اتفقوا في ذلك اليوم على شيء واحد: أن الصوت لم يعد رصاصة، بل ورقة، وبأن الديمقراطية لم تعد خطاب بل باتت ممارسة عنوانها صناديق الاقتراع.

مرت السنوات وتعاقبت الأزمات، لكن ظل 27 أبريل محفوراً في وجدان اليمنيين كرمزاً ليوماً استطاع فيه المواطن اليمني أن يرفع رأسه عالياً ويقول أنا أُقرر.

ومع كل ذلك بقي الـ 27 من أبريل يوماً رمزياً له ثقلهُ في الضمير الوطني، ليس لأنه مَثل لحظة فارقة في تاريخ الجمهورية اليمنية، بل لأنه كان أول مرة تذوَقَ فيها اليمنيون طعم المشاركة الشعبية في رسم المسار السياسي للبلد.

لقد كانت هذه التجربة نبتة صالحة زُرعت في أرض صلبة ثم هاجمتها رياح التسلط والتشظي والانقلاب، لتبقى هذه الذكرى ليس مجرد ذكرى عابره، بل إرثاً سياسياً يجب أن يُصان.

ختماماً:
يجب على اليمنيين أن يتذكروا أنهم ذات يوم قالوا كلمتهم، وأن هذه الكلمة لا تزال قادرة على العودة، حين تتوفر الإرادة، ويهزم شغفها المستحيل.