الجواسيس على الشاشات من الحرب الباردة إلى صراعات المصالح

تشكل المغامرات وعناصر التشويق والصراعات ومشاهد الحركة مجتمعة عناصر جاذبة للجمهور العريض تدفعه إلى التفاعل مع الشخصيات، لاسيما تلك الاستثنائية والخارجة عمّا هو مألوف وعن نمطية الأبطال والشخصيات المعتادة.

العالم القائم على المفاجآت غير المتوقعة وعلى قطع الأنفاس لطالما رافق أفلام الجاسوسية لاسيما وأن قصصا حقيقية ووقائع ارتبطت بأشهر الجواسيس على مستوى العالم، وخاصة في ذروة الصراعات بين الدول الكبرى والأصغر ومنذ اندلاع الحروب المتعاقبة وآخرها الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا.

ولا يكاد يمرّ زمن طويل حتى تعلن هذه الدولة أو تلك عن طرد صحافيين أو دبلوماسيين تابعين لدولة معينة من أراضيها، والسبب غالبا هو اكتشاف عمليات تجسس، ومن هنا تنطلق الدراما الفيلمية في تعقب تلك الشخصية وممارستها الجاسوسية بشكل محترف وتحت إشراف الدولة التي تنتمي إليها.

وبهذا تنوعت أساليب المخرجين في تقديم تلك الصورة المبتكرة والمتجددة في مقابل قصص كلاسيكية معلومة، عبّر فيها أصحابها عن ولاء وإخلاص وطني أكثر مما هي عمليات معقدة وشديدة الذكاء يضطلع بها متمرّسون.

يمكننا هنا أن نتذكر مما حملته لنا الشاشات فيلما جسدته نجمة الثلاثينات والأربعينات بلا منافس غريتا غاربو وهي تؤدي دور الجاسوسة ماتا هاري من أصول هولندية، والتي تم تكليفها بالتجسس على الألمان من خلال عملها في أحد النوادي الليلية، وهو الفيلم الذي أخرجه جورج فيتزموريس وكان أقرب إلى السيرة الذاتية الممتعة عن حياة تلك الجاسوسة الشهيرة.

ويحضر في هذا السياق واحد من أهم مخرجي السينما في العالم وهو المخرج فريتز لانغ في فيلمه الذي يعود إلى العام 1946 بعنوان “كلوك وداغر” من بطولة غاري كوبر وليليا بالمر، وبالطبع سوف تحضر هنا بقوة قضية صراع الجواسيس المعهودة ما بين الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا النازية، وعلى خلفية امتلاك النازيين وتطويرهم القنبلة الذرية واستدراج الجواسيس لصالح واشنطن لاختراق تلك الأسرار الدفينة.

ولاشك أن شخصية جيمس بوند تحضر هنا بقوة ومنه هذا الفيلم المبكر الذي حمل عنوان “من روسيا مع الحب”، والذي يعود إلى العام 1964، وهو الفيلم الثاني في هذه السلسلة للمخرج تيرنس يونغ عن رواية حملت ذات الاسم للكاتب إيان فيلمنغ، ويجسد شون كونري شخصية العميل رقم 007 التابع للمخابرات البريطانية في سياق صراعها مع المخابرات السوفيتية آنذاك ومحاولة تجنيد كاتبة روسية لصالح المخابرات البريطانية، والأحداث في الغالب تقع في تركيا.

وأما إذا عدنا إلى روائع كلاسيكيات السينما وفي موضوع التجسس تحديدا فلا يمكن ألا نتذكر فيلم “الرجل الثالث” الذي بقي حتى الساعة يعد واحدا من أيقونات السينما العالمية، حيث جمع نخبة من ألمع الشخصيات السينمائية يعززهم الكاتب البرطياني الشهير غراهام غرين الذي كتب السيناريو، فيما أخرج الفيلم كارول ريد وأدى الأدوار المخرج وكاتب السيناريو والمخرج أورسون ويلز بالإضافة إلى جوزيف كوتين وتريفور هاوارد وحيث المغامرة تقع على الأراضي النمساوية في ظل أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية وقد خربت فينا فيما حرب الجواسيس لا تكاد تتوقف.

وأما في الأزمنة الحديثة ومع موجة الإرهاب فقد اقترن التجسس بقضية الإرهاب والإرهابيين كما في فيلم “عيسى كاربوف” الرجل المطلوب بشدة للمخرج أنطون كوربين وحيث يُبنى السرد الفيلمي على تتبع جوانب من حياة مجتمع المسلمين في ألمانيا وفي مدينة هامبورغ خاصة.

وتقوم خلال ذلك المخابرات الألمانية بزرع الشاب جمال وهو من أصول عربية (الممثل المغربي مهدي الذهبي) كي يتجسس على والده فيصل عبدالله (الممثل الإيراني همايون إرشادي)، رجل الأعمال المشهور والمسلم المتدين الذي يشرف على العديد من الجمعيات الخيرية التي في نفس الوقت تثير شبهات السلطات الألمانية في احتمال كونها تمارس أعمالا إرهابية أو تدعم منظمات إرهابية، وهنا يقول المحقق غونتر باختصار شديد “الآن وبعد الحادي عشر من سبتمبر نحن نرى في عين كل رجل ذي بشرة سمراء شخصا ما يريد قتلنا”. هذه هي الخلاصة التي تحرك عملنا في التجسس على هؤلاء.

ويقدم أحد أحدث الأفلام في موضوع الجاسوسية وهو فيلم “الناقل” للمخرج البريطاني دومينيك كوك صورة أخرى من نوع أفلام التخفي لتشمل حياة الجواسيس في ظل الأنظمة المتصارعة، والتي كان من علاماتها إلى وقت قريب الصراع بين الشرق والغرب، وتحديدا الصراع المعلن والمخفي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، في ظل ما عرف بمرحلة الحرب الباردة.

على هذه الخلفية بنيت قصة هذا الفيلم وذلك بناء على وقائع حقيقية جرت ما بين العامين 1960 و1962 عندما كانت القوتان المتنازعتان على شفا مواجهة نووية وكانت الخطابات سجالا ما بين الزعيمين جون كنيدي وخروتشوف، وكانت مهمة تجنيد جاسوس للقيام بمهام محددة وشديدة الخطورة والسريّة تحتاج إلى شخص بعيد عن الشبهات وربما يكون العثور على رجل أعمال نشيط لا علاقة له بالسياسة هو الحل الأمثل، وهو ما يقع بعد ذلك ليقدم لنا نمطا مختلفا من هذا النوع الفيلمي المميز.