الغنوشي وعبقرية الفشل

كيف يمكن للمرء أن يكون من صنع الإعلام، ويعجز الإعلام في النهاية عن أن يُنقذه؟

السؤال الأصعب هو، ما حجم الفشل الذي يجعل ماكينة إعلامية بحجم قناة “الجزيرة” لا تكفي لإنقاذ راشد الغنوشي من ورطته مع نفسه؟ هل نطلب النجدة من “سي.أن.أن”؟ أم هل تنفع “رويترز” التي تتبرع بتقديم قراءة للإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد تمالئ التصور الذي يتصوره الغنوشي عن صلاحياته الدستورية؟

مثل الكثير ممن يحاولون اللعب على كل الحبال، فإنهم يتعثرون بحبالهم في النهاية.

مشروع أصولي، ظل لا يؤمن بالديمقراطية في مرجعياته الرسمية، صار رأسا للبرلمان. يبدو الأمر وكأنه نكتة. ولكنها لم تعد كذلك عندما نهض واحد من أنصار تلك المرجعية، بكل هدوء، ليمشي بضع خطوات تبدو طبيعية، لكي يوجه لكمات إلى وجه زعيمة كتلة برلمانية، ويحوّل جلسة البرلمان من تحت أنف رئيسه إلى حلبة ملاكمة.

تأمل، من جديد، في “فيديو” تلك “العملية” التي أسقطت الديمقراطية في الوحل.

والواقع هو أن حلبة الملاكمة هي الشيء الطبيعي في الثقافة المرجعية الغنوشية، وليس تقاليد العمل البرلماني.

هذا الفشل لم يكن إلا الوجه الفضائحي للكثير من أعمال الملاكمة التي خضع لها الشعب التونسي، تحت إدارة الغنوشي. وهي ذاتها الأعمال التي دفعت الرئيس سعيد إلى أن يتولى رئاسة النيابة العامة لكي يفتح ملفات الفساد والجرائم الأمنية التي تم دفنها في أضابير النيابة العامة وأضابير البرلمان.

هذا هو المنصب الذي يُخيف أهل المرجعيات المراوِغة. ذلك أنهم راوغوا كثيرا في محاولات “التمكين” من أجل الاستيلاء على الدولة التونسية، وتنصيب إدارات تكفل لهم استدامة الفشل.

والفشل هو المستنقع الطبيعي لثقافة القضاء والقدر الغنوشية. من ناحية، هي تدفع إلى إفقار الناس، ومن ناحية أخرى تقدم لهم تفسيرا آخر، يقول إن ذلك من مشيئة السماء السابعة وليس من فعل الذين يرتعون في العالم السفلي تحت أرض البرلمان والحكومة.

تونس ليست بلدا فقيرا. صحيح أنها من دون موارد طبيعية كبيرة، إلا أنها ليست من دون موارد. الثروة البشرية هي أحد أهم مواردها. السبّاح أحمد الحفناوي حامل ذهبية أولمبياد طوكيو، ومحمد خليل الجندوبي حامل فضية التكواندو في طوكيو أيضا، وأنس جابر بطلة التنس، أمثلة تغري بالإشارة إليها، ولكنّ أبطال تونس التاريخيين هم أنفسهم فلاحوها الذين يوفرون 12 في المئة من الناتج الإجمالي (أو أكثر من 5 مليارات دولار سنويا)، وعمّالها بين الصناعتين الاستخراجية والتحويلية الذين يوفرون 33 في المئة من الناتج الإجمالي (أو أكثر من 15 مليار دولار سنويا)، ومديرو شؤون السياحة التي توفر 2 مليار دولار سنويا (5 مليارات في الظروف العادية). هؤلاء هم الثروة التي أضاعها حزب راشد الغنوشي وجعلها ترزح تحت نير الفقر.

الطبول التي تُطبّل للغنوشي كثيرة دائما، ليس أقلها تركيا العثمانية نفسها. بمعنى أنه بالإضافة إلى السمعة التي توفرها له “الجزيرة”، ما كان يجب لسمعته أن تنحدر إلى سمعة رديئة إلى الحد الذي يدفع الملايين من التونسيين إلى الشعور بتأنيب الضمير عندما أوكلوا السلطة والنفوذ إلى حزب عصبوي يصنع الفشل حتى في بلد مثل تونس.

وهل تحتاج آلة إنتاج كانت تعمل مثل الساعة السويسرية إلى أن تصبح ساعة رملية لكي تقلب الأوضاع في البلاد إلى الحد الذي يجعل أكثر من 40 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر؟ أو لا يجد نحو 35 في المئة من شبابه عملا؟

لم يكن كل شيء قويما في تونس قبل التغيير، والساعة لم تكن سويسرية تماما. إلا أنها كانت تتدبر شؤونها على الأقل. بينما أمضى الغنوشي ثلاثة أرباع سلطته وهو يحاول أن يتدبر شؤون أنقرة والدوحة في بلاده.

ويشار بالبنان إلى بيئة الفساد التي كانت تعمّ مصادر صنع الثراء في تونس (من اقتصاد الاستثمارات الخارجية غالبا)، في ظل العهد السابق. ولكن الفساد تحت سلطة الفشل أصبح بنيويا لنهب الدولة من داخلها، بينما ضاعت الاستثمارات الخارجية.

بعض النجاح يحتاج إلى عبقرية. وكذلك الحال مع الفشل. ولا بد من الاعتراف بأن قيادة الغنوشي، المباشرة، أو من خلف الستار، كانت عبقرية تماما في صنع ما انتهت إليه أحوال البلاد.

إذ مَنْ يمكنه أن يدفع بلدا بموقع تونس وشعبها وعلاقاتها الدولية إلى حافة الإفلاس، ما لم يكن عبقريا؟

مفهوم تماما حقيقة أن الغنوشي لا علاقة له بشؤون إدارة الدولة. وثقافته أضيق من أن تمنحه القدرة على قيادة أربع غنمات، ولكن الدولة في تونس تدير نفسها إلى حد بعيد، ولا تحتاج إلى راع عبقري إلى ذلك الحد.

فوضى الصراعات السياسية، والأحابيل والمؤامرات امتدت إلى حزبه نفسه، ولكنها طغت على الأجواء العامة، إلى درجة أن البرلمان كان مجرد آلة لصنع الضجيج. وكان ذلك يُدعى “ديمقراطية”، حيث يمشي “النائب” بهدوء مشيته الطبيعية، قبل أن تبدأ الملاكمة.

هذا النمط من المسالك، كان هو الذي سمح باغتيال النائبين محمد البراهمي وشكري بلعيد، ومحاولة اغتيال غيرهما. المسألة كانت في الأصل مسألة ثقافة حملها الإسلام السياسي إلى تونس. وهي ثقافة لو كانت مقبولة في عهد الدكتاتورية لما بقي الغنوشي حيا. خطيئة ذلك العهد هي أنه استخف بثقافة الغنوشي، معتقدا أنها بعيدة كليا عن فلك المعنى الذي تدور فيه تونس. وخطيئة التونسيين التي يدركونها الآن، هي أنهم استخفوا بذلك الفلك، فالتبس عليهم المعنى.

وليس الرئيس قيس سعيد هو الذي ضاق ذرعا. التونسيون سبقوه إلى الشكوى والتذمر ومشاعر الإحباط.

جانب من استسلامهم لأقدار كورونا، جاء من ذلك الإحباط نفسه. الحياة لم يعد لها معنى. ولئن ظلت الحريات العامة عزيزة على الجميع، فلقد عز عليهم حال البؤس الذي باتوا يعيشون فيه، حيث تتنازع الأحزاب فيما بينها، وتتنازع الحكومة مع الرئيس، ويتآمر هذا على ذاك، وتدور شؤون البلاد في الدوائر المظلمة لتحالفات تسودها الشبهات والأضاليل.

النظر إلى إجراءات الرئيس سعيد على أنها “انقلاب”، أو على أنها “ثورة”، لا يعني شيئا. لأن المشكلة ليست مشكلة سجال حول وصف شيئين مختلفين. الفشل لا سجال فيه. وهو لا يحمل إلا وصفا واحدا. إنه فشل. وهو أكبر من قدرة “الجزيرة” على أن تجعله نجاحا باهرا لرجل “عبقري” مثل الغنوشي. شيء كهذا كثير حتى على إعلام تركيا العُصملّية.

*العرب